الشرط هو: ما ترتَّب على عدمه العدمُ، ولا يترتَّبُ على وجودِه وجودٌ ولا عدمٌ؛ كالوضوء بالنسبة للصلاة؛ إذ يترتب على عدمِ الوضوء عدمُ الصلاة، ولا يترتب عليه وجودُ الصلاة أو عدمها.
وللصلاة شروط وجوب، وشروط صحة:
المحتوى
أ- أما شروط الوجوب، فهي:
1- الإسلام:
فأما الكافر، فإن كان كفره أصليًّا، لم تَجِب عليه، وإذا أسلم لم يخاطب بقضائها؛ لقوله – تعالى -:
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ﴾ [الأنفال: 38]؛
ولأن في إيجاب ذلك عليه تنفيرًا عن الإسلام، فعفي عنه، وإن كان مرتدًّا وجَبَت عليه، وإذا أسلم لزمه قضاؤها كالمُحدِث؛ حيث إنه اعتقد وجوبَها ويقدر على التسبُّب إلى أدائها.
2- البلوغ:
فلا تجبُ على الصبي؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -:
((رُفِع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلُغَ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفِيق))،
والصبي هو الوحيد من بين مَن لا تجب عليهم الصلاة الذي يُؤمَر بالصلاة لسبعٍ ويُضرَب عليها لعشر؛ لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((مُروا أولادَكم بالصلاة إذا بلغوا سبعًا، واضرِبوهم عليها إذا بلغوا عشرًا)).
3- العقل:
فلا تجبُ الصلاة على مجنونٍ؛ للحديث السابق، ويقاس عليه كل مَن زال عقله بسبب مباح عند الشافعية خلافًا للحنابلة، أما مَن زال عقلُه بجُرْمٍ، فلا يسقط عنه الفرض، ويجب عليه القضاء بعد الإفاقة.
4- الخلو من الحيض والنفاس:
وسقوط الصلاة في هذه الحالة هو من قبيل العزائم لا من قبيل الرخص، وبالتالي لا يجب القضاء على الحائض المرتدَّة؛ لأنها من أهل العزائم.
ب- وأما شروط الصحة، فهي:
1- الطهارة من الحدث الأصغر والحدث الأكبر:
لقوله – تعالى -:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴾ [المائدة: 6]،
ولحديث ابن عمر – رضي الله عنهما -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:
((لا يَقبلُ الله صلاةً بغير طُهور)).
2- الطهارة من الخبث:
فلا تصح الصلاةُ ممَّن علِق بجسده أو بثوبه أو بمكان صلاته نجاسة حسية؛ لقول الله – تعالى -:
﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]،
وقوله – صلى الله عليه وسلم –
((تنَزَّهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه))،
وما روي عن علي – رضي الله عنه – قال: كنتُ رجلاً مذَّاء، فأمرتُ رجلاً أن يسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – لمكان ابنتِه، فسأل فقال:
((توضَّأ واغسِل ذَكَرك))
وما روي أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقام إليه الناسُ ليقعوا به، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –
((دعوه وأريقوا على بوله سَجْلاً من ماء))
ويذهب بعض الفقهاء – ومنهم الإمام الشوكاني – إلى أن هذه الأحاديث تُفِيد وجوب تطهير الثياب والبدن والمكان، ولكنها لا تُفِيد أن ذلك شرطٌ لصحة الصلاة، فمَن صلَّى مُلابسًا النجاسة عامدًا، فقد أخل بواجب، وصلاتُه صحيحة.
وهذا كله في حالة القدرة على إزالة النجاسة، أما عند العجز عن إزالتها، فإن الصلاة تكون جائزة بالاتفاق.
3- العلم بدخول وقت الصلاة:
فإن الوقت سببٌ، والعلم بدخوله شرطٌ؛ وذلك لقوله – تعالى -:
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]؛
أي: فريضة مؤقتة بوقت محدَّد كالحج، ويكفي غلبة الظن، فمَن تيقَّن أو غلب على ظنه دخول ُالوقت، أُبِيحت له الصلاة بأي سبب من أسباب حصول العلم؛ كإخبار الثقة، أو أذان المؤذن المؤتَمن، أو الاجتهاد.
4- ستر العورة:
وذلك لقوله – تعالى -:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31]،
والمراد بالزينة ما يستُرُ العورة، والمراد بالمسجد: الصلاة؛ أي: استروا عورتَكم عند كل صلاة؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -:
((لا يقبلُ الله صلاةَ حائضٍ إلا بخمار))،
ولحديث سلمةَ بن الأكوع قال: قلتُ: يا رسول الله، إني أكون في الصيد وأصلي في القميص الواحد، قال:
((نعم وأَزْرِرْه ولو بشوكة))،
وعلى ذلك فلو صلى عريانًا خاليًا، أو في قميص واسع الجيب ولم يُزرِّره، ولم يشُدَّ عليه وسطه، وكان بحيث يرى منه عورة نفسه في قيامه أو ركوعه ونحوه – لم تصحَّ صلاته.
ووجوب ستر العورة كشرطٍ لصحة الصلاة أمرٌ متَّفق عليه بين جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة وغيرهم، ويرى بعض المالكية أن ذلك ليس من شروط الصلاة، مستدلين بقول الله – تعالى -:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ﴾ [المائدة: 6]،
قالوا: فلو وجَب شيء آخر لذكره
ويمكن أن يُجاب عن ذلك بأن سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مبيِّنة لمجمل القرآن ومخصصة لعامِّه، وقد وردت أحاديث كثيرة بالحثِّ على وجوب ستر العورة في الصلاة كما في الأحاديث المتقدمة، فوجَب الرجوع إليها، هذا فضلاً عن أن الإجماع متحقِّق – كما قال ابن عبدالبر – على فساد مَن ترك ثوبه، وهو قادر على الاستتار به وصلَّى عريانًا، قال: وهذا قد أجمعوا عليه كلهم.
حد العورة:
وكلامنا في حد العورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول في عورة الرجال:
حيث أجمعت الأئمة على أن السَّوءتين من الرجال عورة، وأما ما عدا ذلك، فقد اختلف الفقهاء فيه على النحو التالي:
- فيرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية – والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه – أن عورة الرجل هي ما بين السُّرَّة والرُّكبة.
- ويرى الظاهرية – والإمام أحمد في رواية ثانية عنه – وابن أبي ذئب، أن العورة تنحصر في الفَرْجين فقط.
وسبب الخلاف في ذلك أثران ظاهرهما التعارض عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وكلاهما ثابت:
فالأول: قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه جَرْهَد الأسلمي:
((غَطِّ فخِذَك؛ فإن الفخِذَ عورةٌ))، وقَصَدَ الراوي.
والثاني: حديث أنس: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حسر الإزارَ عن فخذه يوم خيبر، حتى إني لأنظر إلى بياض فخذه”
ويمكن الجمعُ بين الحديثينِ المتقدِّمين بأن يكون كشف الفخذ من خصوصيات الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأنه لم يظهر فيها دليل يدل على التأسِّي به – صلى الله عليه وسلم – فالواجب والأحوط ديانةً التمسُّكُ بتلك الأقوال التي تنص على أن الفخذ عورة، وهذا ما ذهب إليه الإمام الشوكاني
هذا، ومع اتفاقِ جمهور الفقهاء على أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، فقد اختلفوا في نفس السرة والركبة، هل يعتبران في عداد العورة أم لا؟
فذهب الشافعي في أصح الروايات عنه إلى أنهما غير داخلتينِ في العورة، وهو مذهب الإمام أحمد، وعند الشافعية وجه ضعيف أن السرة عورة دون الركبة، وهذا عكس ما يراه الحنفية؛ حيث يرون أن الركبة عورةٌ دون السرة، وهو وجه ضعيف آخر عند الشافعية.
- وقد استدلَّ أصحاب الرأي الأول بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عمرُو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
((إذا زوَّج أحدُكم عبدَه أَمَته أو أجيرَه، فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة))؛ولأن الركبة حدٌّ فلم تكن من العورة كالسُّرة. - وأما مَن قال بأن الركبة من العورة دون السرة – وهو رأي الحنفية والهادوية – فقد استدلُّوا بتقبيلِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لسرَّة الحسن، وبحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((عورة الرجل ما بين سُرَّته إلى ركبته)). - وأما مَن ذهب إلى أن السرة عورة دون الركبة، فقد استدلُّوا ببعض الأحاديث التي تُفِيد أن الرُّكبة ليست بعورةٍ، كرواية أبي موسى “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قاعدًا في مكان فيه ماءٌ فكشَف عن ركبته أو رُكْبَتيه، فلما دخل عثمان غطَّاها”
وقد تعقَّب كلُّ فريق أدلة الفريق الآخر بالمناقشة بما لا داعي لتفصيله هنا، ولكن الذي ينبغي أن نعلمه هنا أن حِيطة المرء وحذره في أمور دينِه هي من باب الورع، وبالتالي فينبغي على كل مسلم أن يستر عورته وهو في صلاته، بما في ذلك السرة والركبة؛ حتى يخرج بذلك من العهدة، والله أعلم.
القسم الثاني: في عورة الإماء:
وهن مثل الرجال عند جمهور العلماء؛ أي: إن عورتها من السرة إلى الركبة، خلافًا للظاهرية الذين قالوا بأن الأَمَة كالحرة سواء بسواء بالنسبة للعورة.
والخلاف هنا في الوجوب، بمعنى أن الأَئمَة يُندَب لها عند الجميع ألا تُصلِّي إلا وعلى جسدها ثوب يستر جميع بدنها، وإنما الخلاف في صحة صلاتها إذا لم تستر إلا ما بين سرتها وركبتها فقط، وقد استدل الجمهور بحديث عمرِو بن شُعَيبٍ المتقدِّم، بينما استند الظاهرية – وغيرهم ممَّن سوَّى بين الحرائر والإماء – بعموم كلمة الحوائض الواردة في حديثه – صلى الله عليه وسلم – المتقدم.
القسم الثالث: في عورة الحرائر:
بَدَن المرأة كلُّه عورةٌ ما خلا الوجهَ والكفَّينِ عند أكثر العلماء، واستثنى أبو حنيفة أيضًا القدمينِ، وقيل: بل كلها عورة عدا وجهها، وهو رأي الإمام أحمد وداود الظاهري، وقيل: بل جميع بدنها عورة.
واستدلوا جميعًا بالأدلة التالية:
- قول الله – تعالى -:
﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ [النور: 31]؛أي: ولا يُظهِرن مواضع الزينة. - وقوله – صلى الله عليه وسلم -:
((لا يقبلُ الله صلاةَ حائضٍ إلا بخمار)). - وعن أم سَلَمة أنها سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أتُصلِّي المرأة في درعٍ وخمار وليس عليها إزار؟ قال:
((إذا كان الدرع سابغًا يُغطِّي ظهور قدمَيْها)).
هذا ما استدلَّ به الفقهاء على وجوب ستر المرأة لجميع بدنها كشرط لصحة الصلاة، وأما سبب اختلافهم في الوجه والكفين والقدمين، فهو ما وقع من المفسِّرين من اختلاف حول تفسير قول الله – تعالى -:
﴿ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ [النور: 31]،
هل هذا المستثنَى المقصود منه أعضاءُ محدَّدة، أم إنما المقصود منه ظاهر الزينة كالثياب، أو ما يظهر بحكم ضرورة الحركة فيما لا بد منه؟
فمَن قال بالأول، ذهب إلى أن الوجه والكفين مما جرت العادة بألا يستر، وبالتالي فليس أي منها بعورة؛ ولذلك فإن المرأة لا تستر وجهها في الحج.
ومن قال بالتفسير الثاني، قال بأن بدنَها كله عورة، واحتج لذلك بعموم قوله – تعالى -:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 59].
ما يجزئ من اللباس في الصلاة وما لا يجزئ:
بعد أن اتفق الفقهاء على وجوب ستر العورة، وأن ذلك وحده شرط لصحة الصلاة، ذكروا بعض الصور للألبسة التي لا تجوز الصلاة فيها؛ لورود النهي عنها، مما قد يُفهَم منه بأن ستر ما زاد على العورة واجب أيضًا، ولكن الذي ينبغي أن يُعلَم أن النهي الوارد في هذا كله إنما هو من باب سد الذرائع؛ لئلا تنكشفَ العورة أثناء الصلاة؛ لأن ما يؤدي إلى الواجب فهو واجب أيضًا؛ ولذلك يقول ابن رشد: “ولا أعلم أن أحدًا قال: لا تجوزُ الصلاة على إحدى هذه الهيئات إن لم تنكشِفْ عورته”
وقد اتفق الفقهاء على أنه يُجزِئ الرجلَ من اللباس في الصلاة الثوبُ الواحد؛ لقولِ النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد سُئِل: أيُصلِّي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال:
((أولِكُلِّكم ثوبانِ؟!))
كذلك اتفقوا على أن أقل ما يجزئ الحرَّةَ ثوبٌ يستر جسدَها حتى ظهر قدمَيْها، وقناعٌ في رأسها؛ لحديث أم سلمة السالف الذكر.
كذلك قالوا: إن الواجب هو ستر لون البشرة، فإن كان الساتر خفيفًا يُبيِّن لونَ الجلد من ورائه، فيُعلَم بياضه أو سواده أو حمرته، لم يَجُزِ الصلاة فيه؛ لأن الستر لا يحصل بذلك، وإن كان يستر اللون ويصف الخِلْقة، جازت الصلاة؛ لأن هذا لا يمكن التحرُّز منه، وإن كان الأولى طبعًا للمسلم التحرز عن ذلك ما أمكن.
واختلفوا في الرجلِ يُصلِّي مكشوف الظهر والبطن:
فالجمهور على جواز ذلك، ويرى الإمام أحمد وبعضُ الفقهاء عدمَ جواز الصلاة في هذه الحالة؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -:
((لا يُصلِّين أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء))،
والعاتق ما بين المنكبين إلى أصل العنق.
واختلف الفقهاء أيضًا في الصلاة في الثوب المغصوب، أو الحرير بالنسبة للرجل:
- فذهب بعض الفقهاء – ومنهم الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه – إلى عدم صحة الصلاة.
- وذهب جمهور الفقهاء إلى صحة الصلاة مع الحرمة، وسبب اختلافهم في ذلك هو هل الشيء المنهي عنه مطلقًا اجتنابُه شرطٌ في صحة الصلاة أم لا؟
- فمن ذهب إلى أنه شرط، قال: إن الصلاة لا تجوز به، ومَن قال: إنه ليس بشرط مع إثمه بلباسه، قال: إن الصلاة جائزة.
الشرط الخامس: استقبال القبلة:
أجمع العلماء على وجوب استقبال القبلة كشرطٍ لصحة الصلاة، لا فرق في ذلك بين المفترض والمتنفل؛ وذلك لقوله – تعالى -:
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 150]،
وقوله – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه أبو هريرة – رضي الله عنه -:
((فإذا قمتَ إلى الصلاة، فأسبِغِ الوضوء، ثم استقبِل القبلة فكبِّر))،
فهذان النصَّانِ عامَّان في الفرض والنَّفل على السواء، وقد صلَّى النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى بيت المقدس عشر سنين بمكة، وستةَ عشرَ شهرًا بالمدينة، ثم أُمِر بالتوجُّه إلى الكعبة.
مراتب الناس في استقبال القبلة:
قسَّم الفقهاءُ الناس في استقبال القبلة إلى أربعة أصناف:
الصنف الأول: مَن يلزمه اليقين:
وهو مَن كان معاينًا للكعبة، أو كان بمكة من أهلها، وكذلك الأمر بالنسبة لمن كان بمسجد الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة؛ لأنه متيقنٌ صحةَ قِبْلته؛ لأنه منصوب بالوحي ومباشرة المعصومينِ؛ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجبريل – عليه السلام – وإجماع الأمة.
الصنف الثاني: من يلزمه الاستخبار:
وهو مَن كان بمكة غائبًا عن الكعبة من غير أهلها ووجد مُخبِرًا يُخبِره عن مشاهدة ويقين، أو كان غريبًا نزل بمكة فيُخبِره أهل مكة، وكذلك لو كان في مصر أو قرية فعليه التوجُّه إلى محاريبهم وقِبْلتهم المنصوبة؛ لأن هذه المحاريب ينصبُها أهل الخبرة والمعرفة، فجرى ذلك مجرى الخبر.
الصنف الثالث: مَن يجب عليه الاجتهاد:
وهو مَن عَدِم الحالتين السابقتين وهو عالم بالأدلة.
الصنف الرابع: مَن فرضُه التقليد:
وهو الأعمى ومَن لا اجتهاد له وعَدِم الحالتين الأوليين، فيسأل مسلمًا عارفًا بالقبلة ويقلده، فإن عدم من يقلده، فقيل: يصلي إلى حيث يشاء، وقيل: يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات.
ولا يجب على مَن اجتهد في القِبْلة أو قلَّد بسؤال غيره أن يُعِيد إذا ثبت خطؤه بعد فراغه من الصلاة، أما إذا تغيَّر اجتهاده، أو أعلمه مسلمٌ بخطئه في القبلة أثناء الصلاة، فالواجب عليه أن يستديرَ إلى القِبْلة ولا يقطع صلاته؛ لما روى ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: “بينما الناس بقُبَاء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أُنزِل عليه الليلةَ قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل القبلة، فاستقبِلُوها، وكانت وجوهُهم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة”[24].
هل الفرض هو التوجُّه نحو عين الكعبة أم إلى جهتها؟
تختلفُ الإجابة عن هذا التساؤل تبعًا لمكان الصلاةِ، فالمُصلِّي الموجود بمكَّة يجبُ عليه استقبالُ عينِها، والذي لا يستطيع مشاهدتها من سائر مَن بعُد عن مكة، يجب عليه استقبالُ جهتِها، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((ما بين المشرق والمغرب قِبْلة))
هذا بالنسبةِ لأهل المدينة ومَن جرى مجراهم كأهل الشام والجزيرة والعراق، وأما أهل مصر فقبلتُهم بين المشرق والجنوب، وأما أهل اليمن فالمشرق يكون عن يمينِ المُصلِّي والمغرب عن يساره، والهند يكون المشرق خلف المصلي والمغرب أمامه، وهكذا في بقية البلدان.
الاستثناءات الواردة على هذا الشرط:
استثنى الفقهاء من وجوب استقبال القبلة حالتينِ يجوز فيهما الصلاة إلى أية جهة:
الحالة الأولى: الخوف من العدو:
فإذا اشتد الخوف بحيث لا يتمكَّن من الصلاة إلى القبلة، صلَّى إلى أية جهة، ولا يُؤخِّر الصلاة عن وقتها؛ لقول الله – تعالى -:
﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ [البقرة: 239]،
ولما روى نافعٌ عن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وَصَفها، ثم قال: فإن كان خوفٌ هو أشد من ذلك صلوا رِجالاً قيامًا على أقدامهم، وركبانًا مستقبلي القِبْلة وغير مستقبليها، قال نافعٌ: ولا أرى ابن عمر ذكَر ذلك إلا عن النبي – صلى الله عليه وسلم
ويلحق بالخائفِ المُكرَهُ والمريض؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -:
((إذا أمرتُكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم))
الحالة الثانية: صلاة النافلة للراكب:
حيث يجوزُ له الصلاة حيثما توجَّهت راحِلتُه؛ لما روي عن ابن عمر قال: “كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُصلِّي على راحلته وهو مُقبِل من مكة إلى المدينة حيثما توجَّهت به وقيَّد المالكية ذلك بالسفر الطويل، وبكونه راكبًا، وقيَّده الشافعية بكون الدابَّة متوجِّهةً به إلى مقصده، فإن توجهت به إلى غير مقصده، بطَلت صلاته إن اتجهت به إلى غير القبلة.
الشرط السادس: النية:
النية، وهي: عزم القلب على فعل العبادة تقربًا إلى الله – تعالى – فلا تصحُّ الصلاة بدونِها بحالٍ باتفاق الفقهاء، ومحلُ النية القلبُ، فلا يلزم النطق بها؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا قام إلى الصلاةِ قال: ((الله أكبر))، ولم يقل شيئًا قبلها، ولا يلفظ بالنية ألبتة، فإن تلفَّظ بما نواه كان خلاف الأولى، بل هو بدعةٌ في نظر الإمام ابن القيم، والأصل في وجوب النية قولُ الله – تعالى -:
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]،
وقوله – صلى الله عليه وسلم -:
((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))،
والمقصود بالنية في الصلاة تمييزُ رتبتِها، فالصلاة تارة تكون للفرض، وتكون تارة للنفل، فعلى ذلك إن كانت الصلاةُ مكتوبةً لزمته نيَّة الصلاة بعينِها ظهرًا أو عصرًا أو غيرهما، فيحتاج إلى نية شيئين؛ الفعل والتعيين، ولا يلزمه أن يتلفَّظ بالنية بأن يُحدِّد عدد الركعات، ولا أداءً أو قضاءً، أو إمامًا أو مأمومًا، ولا فرض الوقت، هذا بالنسبة للمكتوبة الحاضرة.
فأما الفائتة، فإنْ عيَّنَها بقلبِه أنها ظهرُ اليومِ مثلاً، لم يحتَجْ إلى نية القضاء ولا الأداء، بل لو نواها أداءً، فبان أن وقتها قد خرج، وقعت قضاءً من غير نية، والعكس صحيح، فأما إن كانت عليه فوائتُ، فنوى صلاةً غير معيَّنة، لم يُجْزِه عن واحدة منهما.
وأما إن كانت الصلاة نافلة، فإن كانت معيَّنة كصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح والوتر، فيفتقر إلى التعيين في النية، وأما إن كانت مُطلَقة كصلاة الليل، فيجزئه نيَّة الصلاة لا غير؛ لعدم التعيين فيها.
هل يشترط أن توافق نيةُ المأموم نيةَ الإمام؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين:
الأول: وهو رأي المالكية والحنفية، أنه يجب أن توافق نيةُ المأموم نيةَ الإمام في تعيين الصلاة وفي الوجوب؛ حتى لا يجوز أن يُصلِّيَ المأموم ظهرًا بإمام يُصلِّي عصرًا، ولا يجوز أن يصلي الإمام ظهرًا يكون في حقِّه نفلاً في حق المأموم فرضًا، وهذا هو رأي الإمام أحمد أيضًا في إحدى الروايتين عنه، استدل هؤلاء بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((إنما جُعِل الإمام ليؤتَمَّ به))
الثاني: وهو رأي الشافعي وأحمد في رواية أخرى، أنه يجوز؛ لما روى جابر بن عبدالله: “أن معاذًا كان يُصلِّي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم يرجع فيصلي بقومِه تلك الصلاة
وأيضًا فقد روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلَّى بطائفةٍ من أصحابه في الخوف ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم، والثانية منهما تقع نافلةً، وقد أمَّ بها مفترضين
ولعل الحقَّ مع أصحاب الرأي الثاني؛ لرجاحة أدلتهم وقوتها؛ حيث هي نص في الموضوع، وأما ما استدل به أصحاب الرأي الأول، فظاهره أنه لا يتناول النية، ولو فرض أنه يتناولها فيكون حديث معاذ مخصِّصًا لعمومها، والله أعلم.