تقوم الدول على أساس العرق أو الدين، وأيًا كان منبعها، فإنها تمر بمراحل النشأة، ثم القوة، ثم الضعف فالتفكك، بعض الدول كانت أكثر حظًا من غيرها، فطالت فترة قوتها، ونجحت في فرض سيطرتها ونفوذها على بقاع واسعة، لكن تلك الدول يكون سقوطها مدويًا أكثر.
في السطور التالية، نتطرق لنشأة بعض الدول الإسلامية التي تبدو وأنها تعاقبت تاريخيًا، لكن المُدقِّق يرى أن تلك الدول قام أولها بدعم ثانيها، وهكذا، حتى تبدو كأنها سلسلة متصلة، كل دولة حلقة، تتصل بما بعدها، وما قبلها؛ السلاجقة، فالزنكيون، فالأيوبيون، فالمماليك، كل منهم تفوق على أستاذه، واستلم الحكم بعده، وظلت غايتهم موحدة على اختلاف الشخصيات، كما توحّد دينهم، وانتموا لعرقيات متقاربة.
السلاجقة العظام
لم تكن الدولة السلجوقية هي الدولة المسلمة الأولى في آسيا، فقد سبقتها العديد من الإمارات والولايات، لكنها كانت الأقدر على توحيد تلك الولايات تحت حكمها، وتوطيد العلاقات بالزواج مع الدول الأخرى، وربما أيضًا كانت الأوسع تأثيرًا في تاريخ العالم الإسلامي.
ككل الدول الإسلامية «السنّية» الناشئة، حرصت الدولة السلجوقية على نيل رضا الخلافة العباسية، للحصول على الشرعية الدينية، بل وحمتها من الزوال، حين هددتها فتنة البساسيري الذي نجح في الاستيلاء على بغداد، وإسقاط الخلافة العباسية، وإعلان سيطرة الفاطميين على بغداد لسنة كاملة، حتى حاربهم «طغرل بك» مؤسس الدولة السلجوقية، وانتصر عليهم، ليعود الخليفة «القائم بأمر الله» للحكم، وتعود له بغداد عاصمة الخلافة.
وبعدها توطّدت العلاقات بين الدولتين بالزيجات المتكررة، ودعّمت الدولة السلجوقية بقاء الخلافة لمائة سنة أخرى -وإن كان هذا الدعم أشبه بالحجر على الخلافة في نظر بعض المصادر- لكن في المقابل، كان الحكام السلاجقة أول منْ حملوا لقب السلاطين باعتراف الخليفة العباسي، وإن سبقهم في حمل اللقب بعض الدول التي لم تحظَ بنفس الاعتراف.
ومن المُلاحظ أنه مهما كانت الدول «السنّية» قوية، فإنها لا تتخلى عن الخلافة العباسية، كمصدر للحصول على الشرعية الدينية، كما حدث مع المماليك بعد ذلك.
لا توجد دولة مهما كانت قوتها تستطيع تجنب سنة الدول في التفكك بعد القوة، والدولة السلجوقية ليست استثناء، لكن ربما تكمن قوتها في الدول التي نشأت امتدادًا لها، وفي الدول التي أنشأها قادة سلاجقة، فأحدثت تغييرات فارقة في تاريخ العالم.
الورث للأتابكة
تعني كلمة أتابك «الأب-القائد»، وتُطلَق على من يُعيِّنهم السلاطين للاهتمام بتنشئة أبنائهم، وغالبًا كان الأتابكة من قادة الجيش، وكثيرًا ما انفرد الأتابكة بالحكم بعد ضعف الدولة السلجوقية بسبب النزاعات المستمرة بين أبناء السلطان «ملك شاه»، ونبدأ بالدولة الزنكية.
أسسها «زنكي بن آق سنقر» الذي كان مملوكًا للسلطان «ملك شاه»، وكانت نواة دولته «الموصل» التي كان حاكمًا عليها في العهد السلجوقي، ثم توسع ملكه في سوريا، والأناضول وكردستان، ولم يكن آق سنقر هو المملوك الوحيد الذي استقل بالحكم، فدولة أخرى في الشرق نشأت بنفس الطريقة، حين استقل «أنوشتكين» -الملقب بـ «خوارزم شاه»- بالحكم في خوارزم بعدما ولّاه عليها السلطان بركياروق بن السلطان ملك شاه. وهكذا توزّع ورث الدولة السلجوقية بين الأتابكة، وإن بقي جزء من الورث الشرعي لذوي نسبهم سلاجقة الروم.
مصر بين خلافتين
نتنقل نحو عشرين عامًا لاحقة لنور الدين محمود بن زنكي، الذي كان يأمل بأن يُحرِّر مصر من الفاطميين، لتمهيد الطريق لتحرير القدس. وأوكل هذه المهمة لأسد الدين شيركوه، وابن أخيه يوسف بن أيوب الذي سيعرف فيما بعد بالملك الناصر صلاح الدين الأيوبي.
كانت الفرصة مُهيأة أمام نور الدين زنكي أثناء صراع الوزيرين الفاطميين شاور وضرغام، والمؤامرات التي حاكها كل منهما للتخلص من الآخر، حتى لو كلفهم ذلك الاستعانة بالصليبيين، أو بالدولة الزنكية السنّية.
آلت الأمور بعد الصراع إلى صلاح الدين، الذي أصبح وزيرًا فاطميًا في مصر، ومبعوثًا من الخلافة العباسية، لإنهاء الخلافة الفاطمية في الوقت نفسه.
وبدأ خطته في إرجاع مصر للمذهب السني ببناء المدارس التي تدرس المذاهب السنية، حتى انفرد بالحكم بشكل كامل، وأعلن إلغاء الخلافة الفاطمية. وما لبث أن وحد مصر والشام والجزيرة العربية تحت حكمه، وبالطبع حقق انتصاره الخالد بتحرير القدس بعد مائتي عام من الاحتلال الصليبي.
وبذلك انتقلت شعلة الدول السنّية من السلاجقة للزنكيين، للأيوبيين، والحلقة التالية في السلسلة هي الدولة المملوكية، التي استلمت الحكم في ظروف مشابهة لنشأة الدول السابقة.
كل الخيوط عند بيبرس
كانت البداية عند شجرة الدر التي أخفت وفاة زوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب للحفاظ على معنويات الجنود الذين يحاربون الصليبيين في المنصورة، وعندما جاء «توران شاه» ابن نجم الدين ووريثه الشرعي، وتنكر لمماليك أبيه، أصحاب النصر في المنصورة، قتلوه، وبايعوا شجرة الدر. لتبدأ دولة المماليك بلعنة الدم التي لن تفارقها حتى نهايتها. فتقتل شجرة الدر زوجها الذي اختارته لتشاركه الحكم، بعدما استنكر الخليفة العباسي حكم امرأة، وتقتلها أرملة زوجها انتقامًا.
ويتحايل قطز للظفر بالسلطة في غياب الأمراء للصيد، فيقتله بيبرس بعد معركة «عين جالوت»، التي لولا انتصاره فيها لتغيّر وجه العالم حتى اليوم، فلولا رغبة قطز في التصدي للمغول، لصارت القاهرة مثل بغداد. لذلك تُعد الدولة المملوكية محل خلاف، فهي دموية عند انتقال الحكم، لكن لا أحد يستطيع إنكار جهودهم في محاربة المغول والصليبيين.
وصل للحكم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، ونجح في جمع الخيوط التي تبعثرت من كل الدول السابقة، فطارد فلول المغول والصليبيين، وأحكم قبضته على مصر والشام، وتعاون مع القبيلة الذهبية، التي تنتمي نسبًا للمغول، ودينيًا للإسلام بعد اعتناق ملكها «بركة خان» –حفيد جنكيز خان- الإسلام، وتزوّج بيبرس أخت بركة خان، وكان لتعاون بيبرس وبركة خان الدور الأكبر في صد المغول، وتحجيم قوتهم.
ووصل نفوذ بيبرس لسلاجقة الروم، بعدما تفرّق مُلكهم بسبب المغول. حيث استطاع بيبرس السيطرة على ما فقدته الدول السلجوقية والأيوبية من قبل. والأهم أنه أعاد الخلافة العباسية، وإن كانت بشكل صوري، فأحضر الخليفة العباسي المستنصر بالله للقاهرة، ليكتسب ملك بيبرس الشرعية الدينية، وصار الدعاء على المنابر باسم الخليفة والسلطان معًا، وبدأ صعود نجم دولة المماليك.