قصص و روايات
أخر الأخبار

رواية.. مذبحة القلعة

نفّذ محمد عليّ المذبحة الشهيرة ضد المماليك، مذبحة يعدها مثقفون وأنصاف مثقفين بداية تأسيس دولة حديثة، مُبررين إزهاق ألف روح بدم بارد، فيصفها بعضهم بأنها حققت لمصر «المجد والعزة التي طالما كانت تحلم بهما منذ زمن بعيد امتد لسبعة قرون».

وهناك من وصفها بالقتل اللذيذ، ومن وصفها بأنها «قتل الضرورة»، فهل هذا القول صحيح، وهل استحق المماليك القتل والاغتيال بهذا الدم البارد، وهل أراد محمد عليّ التخلص من المماليك أم إماتة روح الثورة لدى أهل مصر؟

لكي نجيب على هذه الأسئلة، نعود إلى مارس 1807، حينما حاولت بريطانيا أن تفعل ما أخفق فيه بونابرت، احتلال مصر، وهذه المرة بمساعدة محمد بك الألفي، أمير مملوكي، ارتبط بلندن، فرأت استغلاله لكي تُنصِّبه حاكمًا على مصر، وتحكم هي منْ يحكم مصر.

نزلت الحملة الإسكندرية، فسلّمها حاكمها من دون مقاومة، فقد ذهبت أيام «محمد كُريم» زعيمها المشهود. أرسل الإنجليز إلى المماليك، فعلموا أن الألفي مات في 28 يناير 1807 قبل قدوم الحملة بأسابيع. هنا، وقف المماليك موقفًا مجيدًا، رفضوا الانضمام إلى الغزاة. قال أمير منهم: «أنا مسلم، هاجرت وجاهدت وقاتلت في الفرنساوية، والآن أختم عملي وألتجئ إلى الإفرنج وانتصر بهم على المسلمين، أنا لا أفعل ذلك».

وقال بعضهم: «أنا لا أنتصر بالُكفّار»، موافقين على وساطة علماء الأزهر للصلح مع محمد عليّ.

مهما قيل عن المماليك، فلا يجب أن ننسى لهم هذا الموقف المجيد، رغم تيّقنهم أن محمد عليّ قد خدعهم أكثر من مرة، وأن غرضه من طلب الصلح هو تأمين الجبهة الداخلية، لكي يتفرّغ للإنجليز، وأنه ما إن يفرغ من الإنجليز يستدير إليهم ويواصل قتالهم.

تصنيف الجريمة ومبرراتها

مذبحة القلعة لا تدخل، طبقًا لمؤرخي التاريخ المصري، ضمن جرائم الاغتيال السياسي، إذ يرون أن دماء القائد الثاني للحملة الفرنسية كليبر التي سالت من طعنات خنجر سليمان الحلبي هي حادث الاغتيال السياسي الأول في تاريخ مصر الحديث، ثم يغمضون عيونهم عن جثث المصريين التي دُفنت تحت ركام الترع والمصارف التي شيّدها محمد عليّ وأبناؤه، حتى إذا استقرت رصاصات إبراهيم الورداني (1886-1910) في جسد رئيس الوزراء بطرس غالي (1846-1910) عام 1910، استرعاهم منظر الدماء وقالوا: «هذه هي حادثة الاغتيال السياسي الثانية في تاريخنا المجيد».

هذا تاريخ مكتوب بعيون، ولأجل عيون السلاطين والملوك، لا تاريخ الجماهير. ففي مذبحة القلعة، نجد حديثًا عن ثمة مؤامرة مزعومة يُدبِّرها المماليك لاغتيال محمد عليّ في السويس خلال تفقده السفن التي ستنقل جيشه إلى الحجاز لقتال الوهابيين، فاعتزم الباشا أن «يتغذى عليهم قبل أن يتعشوا به» إذا خلت القاهرة من جنده.

ولكن منْ هم أولئك المماليك المتآمرون، ومن زعماؤهم؟! لا جواب، فهي مؤامرة كبري، ولا يجوز البوح بأسرار الدولة العليا.

يُفنِّد المؤرخ «عبد الرحمن الرافعي» الرواية الرسمية الواهية ويؤكد «لم نجد لها سندًا قويًا»، ويخلص إلى أن مذبحة المماليك كانت نتيجة تفكير عميق سابق.

لم يكن المماليك يُشكلون خطرًا على محمد عليّ، إذ تقلّص عددهم إلى 2500 مملوك فقط، بعدما عاشوا سنين طويلة منذ 1798 في قتال مستمر مع الفرنسيين والعثمانيين ومحمد عليّ، حتى مال بعضهم إلى المسالمة، والرجوع إلى القاهرة، والإقامة بها، وتوديع حياة الشظف والحرب.

بَيْدَ أنّ محمد عليّ لم يرض بمسالمة المماليك، وطمع في أن يحكم مصر منفردًا، لا ينازعه فيها أحد، لينشئ أسرة ملكية حاكمة، خصوصًا وقد بدا الطريق له مُمهدًا بعد أن غيّب الموت المفاجئ الأمير المملوكي الشرس «محمد بك الألفي» في يناير/كانون الثاني 1807، فقال حين بلغه النبأ: «الآن طابت لي مصر، وما عدت أحسب لغيره حسابًا»، ثم أخفقت حملة فريزر البريطانية ورحلت عن الإسكندرية في سبتمبر 1807، فارتفع مركزه، وتقوّى سلطانه، فأرسل يستدعي أهله من ألبانيا، فقد بدأت الخطوات للانفراد بُملك مصر وأنهارها.

اتخذ محمد عليّ الخطوة الأولى للانفراد بحكم مصر، بالتخلص من الزعامة الشعبية بنفي عمر مكرم إلى دمياط عام 1809. وكانت الخطوة الثانية هي استئصال المماليك، قتلًا بالرصاص وذبحًا بالسكين وسلخًا للجلود.

تفاصيل المذبحة البشعة شهيرة، لكن غير المشهور أنها لم تقتصر على المماليك الذين حضروا احتفال القلعة، فقد هجم جنود الباشا على بيوت أمراء المماليك بالقاهرة، ينهبون كل ما تطوله أيديهم، فسُرقت الأموال وسُبيت الحريم، وصُدرت الممتلكات، ثم تجاوزوا بيوت المماليك إلى البيوت المجاورة، حتى نهبوا 500 منزل.

وبعدما انتهى الجنود من قتل ونهب المماليك بالقاهرة، أصدر غليظ القلب- سيئ الذكر- «محمد لاظ أوغلي» أوامره إلى رجاله بالأقاليم بقتل كل من وجدوه من المماليك، على أن تأتي رؤوس القتلى وتُعلَّق على باب زويلة وباب القلعة، فكانت حصيلة المذبحة اغتيال ألف مملوك بالقاهرة والأقاليم «لاظ أوغلي» هذا هو رجل محمد عليّ الأول، ونائبه الأول، والعقل المدبر لمذبحة المماليك.

وماذا عن موقف المشايخ؟

بارك مشايخ الأزهر المذبحة، وقدّموا التهنئة للباشا بالظفر.

لم يدرك المشايخ أنهم بابتعادهم عن الدفاع عن البسطاء يفقدون سلطانهم وعزهم، وأنهم بمباركة مذبحة بشعة ازدادوا سقوطًا في نظر الأهالي ونظر الجزّار الساكن في القلعة.

فالشيخ الشرقاوي، شيخ الجامع الأزهر، الشيخ الذي خشاه بونابرت، بالغ محمد عليّ في إهانته، فقد لجأ إليه مملوكان، فتشفّع الشيخ فيهما لدى الباشا «لا تفضح شيبتي يا ولدي، وأقبل شفاعتي، وأعطهما محرمة الأمان»، فتظاهر محمد عليّ بالإذعان، ثم أرسل من القلعة يطلب المملوكين، فرفضا الذهاب، والشيخ يقنعهما: «كيف أنه يأخذكما من بيتي ويقتلكما، بعد أن قبل شفاعتي؟!»، لكن الباشا فضح شيبة الشيخ، أطاح بالسيف رأس المملوكين فور أن دخلا القلعة.

«الرؤوس المقطوعة» لإرهاب أهل مصر

تمادى محمد عليّ، ونائبه لاظ أوغلي، في القتل والتمثيل بالجثث، فكانا لا يرحمان من المماليك أحدًا، ولو كان فقيرًا عجوزًا، إرهابًا لأهل مصر، فقد حزا الرؤوس، وسلخا جلودها، وألقيت الجماجم المسلوخة على الرمم في حفر عند الرميلة.

يقول الجبرتي في حوادث الأربعاء 21 مارس 1811 أن رجال الباشا أحضروا 64 مملوكًا ثم «قطّعوا رؤوسهم ورموا بجثثهم إلى البحر، وأتوا بالرؤوس فوضعوها تجاه باب زويلة ليراها الناس كما رأوا غيرها».

هذا هو الهدف من تعليق الرؤوس: بث وغرس الرعب في صدور الجماهير.

ومثلما غدر بالمماليك، غدر محمد عليّ بالبطل «حجاج الخضري»، الذي قاد الثوّار في ثورة القاهرة الثالثة عام 1805 ضد الوالي العثماني، غدر به الباشا بعدما أمّنه، ثم شنق البطل ليلة 17 رمضان، أغسطس 1817.

لا يمكن لمبرر أن يدّعي بأن مذبحة المماليك هي عمل شائع في عصر محمد عليّ، فقد كانت المجزرة بشعة حتى بمقاييس العصر ذاته، يكفي للتدليل على هذا أن محمد عليّ حرص طوال حياته تجنب الحديث عنها، وتحاشى دومًا التطرق إليها في أحاديثه مع الرحالة الأجانب.

مذبحة القلعة تعد بداية انفراد محمد عليّ بحكم مصر، ديكتاتور قابض على السلطة، يسكن قلعة الجبل، فالحاكم فوق، والناس تحت ، ديكتاتور يتعامل مع الأهالي بالسيف وحز الرؤوس وسلخ الجلود، فتركت المذبحة جرحًا غائرًا في الشخصية المصرية لسنوات طويلة، إذ حلت الرهبة في الصدور، ودانت مصر لولي النعم ساكن الجنان.

ومن بعد مذبحة القلعة، بدأ محمد عليّ يُشيِّد نموذج «الدولة العزبة»، «عزبة الباشا وأولاده»! يعاونه في تشيدها كل بلدياته، وأقربائه، وأصهاره.

خلق محمد عليّ نخبة جديدة تدين له بالولاء التام باعتباره «ولي النعم»، فهو الذي ينعم عليهم بالأبعديات، أي بالأراضي الواسعة التي صارت ملكًا له، فهو مالك مصر الأوحد، أمّا أهل مصر فقد اسُتبعدوا تمامًا، إلا من كان صالحًا للعمل موظفًا في دولة الباشا.

بعد سنوات بعيدة، ومع بداية القرن العشرين وتردد دعوة للاحتفال بمئوية تولي محمد عليّ حكم مصر، انتقد الإمام محمد عبده (1849-1905) تجربة محمد عليّ، فقال:

إن الباشا بعد أن سحق الأحزاب القوية اتجه إلى رؤساء البيوت الرفيعة «فلم يدع منها رأسًا يستتر فيه ضمير (أنا)، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلًا لجمع السلاح بين الأهلين… حتى فسد بأس الناس، وزالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد رأسًا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي، ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده.

أمات محمد عليّ الشجاعة والنخوة، وسمح لموجة التغريب أن تُغرِق المجتمع المصري، فإذا بالقاهرة والإسكندرية ومدن الصعيد التي قاومت الفرنسيين ثلاث سنوات، ودحرت حملة فريزر الإنجليزي عام 1807، وتحولت شوارعها إلى ساحات قتال، إذ بها تتساقط كأوراق الشجر أمام الغزو الإنجليزي عام 1882.

أليس من المُستغرَب أن الشعب الذي رفض الرضوخ لأقوى جيوش أوروبا، وقوامه 36 ألفًا، سلّم بالاحتلال الإنجليزي، وهو جيش بلغ تعداده خلال السنوات الأولى من الاحتلال 3 آلاف جندي فقط.

ما الذي فعله محمد عليّ في أهل مصر؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى