قرّر «جوناثان نويل» أن يتخذ لنفسه ركنًا قصيًا من العالم، أن يتحرر من توقع الأفضل أو الأسوأ، أن يتحرر من كل شيء، فأنشأ لنفسه سجنًا صمّمه كما يحب، وكما تقتضي الضرورة فقط، ضرورة أن يبقى على قيد الحياة وأن يحافظ على رتابة وتيرة أيامه وسنواته المتعاقبة.
غلّق الأبواب والنوافذ بإحكام حتى لا ينفذ إلى داخل غرفته من العالم سوى شعاع هزيل من الضوء يعرف من خلاله قدوم الصباح، تساءلتُ وأنا أتابع حياة جوناثان من موقع المتفرج: إذا يئس الإنسان من العالم وقرّر أن ينغلق على نفسه تمامًا، أن يلتف بشرنقة دقيقة دون الرغبة في التخلص منها لأي سبب كان، فهو والحال هذه بات حرًا أم سجينًا؟!
تحرّر من التطلع نحو المستقبل وأغلق على نفسه وأفكاره وهواجسه وماضيه المظلم تلك الغرفة ذات المغسلة الصغيرة التي تفي بأغراض محدودة، كغسيل الأواني والملابس والوجه والأسنان وحلاقة الذقن، يتلصّص جوناثان ويسترق السمع قبل أن يخرج من ملاذه إلى المرحاض العمومي، الذي يتشارك فيه مع سكان الغرف المجاورة، فإذا كان الممر خاليًا، خرج ليقضي حاجته أو يستحم دون أن يشعر أن هناك شيئًا آخر ينقصه في هذه الحياة.
مرت الأيام على نفس الوتيرة لمدة ثلاثين عامًا، شعر جوناثان خلالها أنه ملك الدنيا وما فيها، لا ينقصه شيء خارج عالمه، أو بالأحرى لا يبذل جهدًا في النظر خارج هذا العالم.
ماضٍ مطموس
كان جوناثان يضع ماضيه في حقيبة يحملها على كتفيه، تُثقِل كاهله بل وتُدميه، وكان وزن تلك الحقيبة يزداد يومًا بعد يوم، أو حدث بعد حدث، أول ما تستحضره ذاكرته، ذكرى تُسبِّب له ضيقًا في الصدر كلما جالت بخاطره؛ كان عصر أحد أيام الصيف مثلًا، في تموز (يوليو) 1942، كان سعيدًا وراضيًا، يتمشّى عائدًا إلى منزله بعد رحلة صيد السمك، ثم هطل المطر، فزاده هذا غبطة وسرورًا، دخل إلى البيت متوقعًا أن يجد أمه تعد غداءً لذيذًا حتى يكتمل هذا اليوم السعيد، فلم يجدها، اختفت تمامًا، تلاشت كأن لم تكن، لم يبقَ منها إلا مئزرها المعلق على مسند الكرسي.
تضاربت الآراء حول مصير صاحبة المئزر؛ قال الأب إنها ذهبت وقال الجيران إنها أُبعدَت، لم يفهم جوناثان شيئًا، ثم اختفى الأب بعد عدة أيام، ثم وجد جوناثان فجأة نفسه وأخته في قطار يتجه إلى الجنوب، ومن قطار إلى قطار آخر استقر الأخوان في منزل عم لم يرياه من قبل وقيل إنه يجب أن يخبئهما حتى نهاية الحرب.
سارت حياته على نحو عجيب وغير مفهوم. كان يفقد أحبته دون مقدمات ودون أن يقدم له أحد تفسيرًا مقنعًا عن اختفائهم، ربما لو عرف مكانًا لأمه وأبيه، سجنًا كان أو قبرًا لارتاح قليلًا، أو تسنّى له أن يقترب منهما أو من شيء يخصهما، هل كان الأب عضوًا في جمعية سرية؟ أو كانت الأم تساعد أحد طرفي الحرب حتى استفزت الطرف الآخر فقام بإبعادها؟ كيف يمكن أن يتهدم عالم الإنسان هكذا؟
رائحة مئزر أمه تقول إنها كانت هنا قبل قليل، كان يلتصق بجسدها، تضعه على كتفيها بطريقتها المعتادة، ربما لو لم يذهب في رحلة صيد السمك لما اختفت أمه، وربما لو بقيت أمه لاستطاعت إبقاء أبيه.
إثر هذه الوقائع كلها توصل «جوناثان نويل» إلى عبرة مفادها أن الناس لا يُوثَق بهم، وأن على المرء إذا أراد الهدوء والسلامة أن يبتعد عنهم، ولأنه صار علاوة على ذلك أضحوكة القرية، وهذا لم يثقل عليه بحد ذاته، لولا أن إثارة انتباه الناس أزعجته، فقد اتخذ قرارًا لأول مرة في حياته: ذهب إلى المصرف الزراعي، سحب مدخراته، حزم حقيبته ورحل إلى باريس.
نظرة جوناثان إلى المتسوّل
عندما نظر جوناثان إلى المتسول أدرك ربما للمرة الأولى أن تلك الحرية المطلقة التي تجعل الإنسان يهيم على وجهه ويقتات على الفتات الذي يخلّفه البشر، أو يأكل من القمامة إذا لزم الأمر، يقضي حاجته في الشارع؛ تلك الحرية التي كان يحسد المتسول عليها ليست ما يتمناه جوناثان، تلك التي تجعل الإنسان والحيوان سواءً، فلابد للإنسان من مصدر رزق يكفل له حياة آدمية، تجعله يحظى بالمأوى والمأكل والملبس والمكان الذي قضى فيه حاجته، فلا يضطر لهذا في العلن وأمام المارّة، حينها فقط يكون قد نجا من أن يكون حرًا ككلب أو قطة.
جوناثان الذي هرب من كل شيء، واستطاع أن يصنع من وحدته درعًا يحميه، ومن عزلته سورًا يُواريه، تخلّص من جميع العلاقات الإنسانية حتى ينجو من أي احتمال لخسارة حبيب أو صديق أو حتى زميل، والأهم أنه احتمى من الخذلان الذي مُني به بلا ذنب، كان كل شيء يسير كما خطّط وأحب، سيطر على كل شيء وقضى على أي احتمالية لزلزال جديد يهدم ما بناه، كان مُكتفيًا بما لديه ولا يرغب في المزيد من أي شيء، حتى جاء ذلك اليوم المعلوم وعصف بكيانه حدث غير متوقع.
هل هناك أبأس من تعرية العجز أمام الأنظار والتغوط في الشارع؟ هل هناك أرذل من ذلك البنطال المنخفض، من ذلك التكور، العري الإلزامي والشنيع؟ هل هناك أبغض وأذل من الاضطرار إلى قضاء الحاجة المخجلة أمام أعين كل العالم؟ حاجة! الاسم بحد ذاته كافٍ ليتفشى بالعذاب. وككل ما على المرء أن يفعله رغمًا عنه تتطلب الغياب التام لكل إنسان آخر، كي تكون محتملة، أو على الأقل غيابه الظاهري، في المدينة لا يعين شيء على الابتعاد عن الناس أكثر من حجرة لها قفل ومزلاج، منْ لا يملك مثل هذا الحصن الأمين لقضاء الحاجة؟ هو الأبأس والأجدر بالشفقة مهما كانت قيمة الحرية.
الحمامة
لماذا اختار «باتريك زوسكيند» الحمامة تحديدًا لتكون مصدر رعب بطل الرواية؟ قد يُخيّل للقارئ أن هذا غير منطقي تمامًا، ربما لو اختار الكاتب أن يضع أمام باب غرفة جوناثان كلبًا ضخمًا أو حتى قطة تهاجم المارة، لكانت هذه الاختيارات منطقية أكثر، ولكنه اختار طائرًا يرمز إلى السلام.
كادت قدمه أن تعبر العتبة: كان قد رفع قدمه… قدمه اليسرى، وكانت ساقه قد بدأت بالحركة، عندما رآها، كانت جالسة أمام بابه، لا تبعد عن العتبة عشرين سنتيمترًا، ينعكس عليها الضوء الشاحب الذي يتسلّل من النافذة، كانت قابعة بقائمتيها الحمراوين من ذوي المخالب، بأرياشها الرصاصية الزلقة على بلاط الممر الأحمر… حُمرة دم الثور؛ تلك الحمامة.
جاء الطائر المُسالم في هذه الرواية مُرعبًا للدرجة التي جعلت جوناثان يفر من غرفته التي يقطنها منذ ثلاثة عقود، جعلته يأخذ مدخراته ويهرب إلى فندق ليمضي ليلته، ويمنح حارسة المبنى وقتًا للقضاء على تلك المعضلة، ويستتب أمنه من جديد.
«باتريك زوسكيند» صاحب رواية «العطر»، وهي الأشهر من بين أعماله، والتي تحوّلت إلى عمل سينمائي واسع الانتشار، حقق نجاحًا كبيرًا.
يعلم منْ قرأ هاتين الروايتين أن الكاتب الألماني يحب أن يأخذ الفكرة إلى أقصى درجة من التطرف في العرض، إلى أبعد نقطة من اللا منطقية، ومن تلك النقطة تحديدًا يُولد المنطق من رحم الخيال. تعد المبالغة في رسم البعد النفسي لأبطال أعماله عمومًا هي أفضل طريقة لإثبات ما يرمي إليه.
في حالة جوناثان بطل الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها؛ رُهاب مُطلق من أي جديد في الحياة مهما كان ضئيلًا، ربما أراد الكاتب أن يُوضح أن مواجهة الإنسان لمخاوفه هي أصعب المواجهات في المطلق. يتصور المرء أنه بصدد رؤية وحش كاسر ذي مخالب وأنياب، في حين أنه في الحقيقة ليس إلا حمامة، يراها في صورتها الحقيقية فقط إذا تحلى بفضيلة الشجاعة، ولكن المخاوف تظل في صورة مفترس ضخم إذا ما استبد الخوف بالإنسان.