هل تعلم أن نسبة الملتزمين بالروشتات العلاجية التي يكتبها لهم طبيبهم الخاص لا تتجاوز 65%، في حين أن نسبة التزام نفس الأشخاص بالروشتات العلاجية لقططهم تصل إلى 100%.
هل يعني ذلك أننا نحب حيواناتنا الأليفة ونعطيها قيمة وأهمية أكثر من القيمة التي نعطيها لأنفسنا؟
ولكن من أين يمكن للإنسان المعاصر أن يستمد قيمته الذاتية؟ خصوصاً أننا أصبحنا نعيش في مجتمع يشعر فيه معظم الأفراد بعدم الأهمية وفقدان قيمة الذات معظم الوقت، وذلك ما ينعكس على تصرفاتهم تجاه ذواتهم وارتفاع نسب الانتحار وأفعال إيذاء النفس التي تتزايد كل يوم.
كيف يمكن أن يملك الإنسان الحديث مصدراً دائماً يستمد منه قيمة ذاته ونظرته لنفسه في ظل تقلبات الدهر والعيش في عصر يضعه في صراع ضد نفسه كل يوم؟
صراع الفرد ضد الجماعة
على عكس الاعتقاد السائد، يقول عالم النفس النمساوي «سيجموند فرويد» في كتابه «علم نفس الجماهير»، إن الجنود في الحرب والمصلين في الكنيسة يتشابهون فيما بينهم أكثر مما يختلفون. فكلاهما ينصهر في الجماعة وينسى فردتيه، يتخلى عن ذاتيته ويصبح جزءاً من الكل. وبالرغم من أن الفردية تكاد تتحطم أمام الجماعة ومعها إيثار الذات، إلا أن هذا أكثر وقت يشعر فيه كل فرد بقيمته الذاتية وأهميته، وفقاً لفرويد بالطبع.
وذلك لأن قيمة الذات هنا تصبح ناتجة عن الشعور بالانتماء لدى الفرد، الفرد الذي يشعر أنه ليس مجرد فرد، بل مؤسسة، كيان ضخم أكبر من نفسه. حيث يستمد قيمته من كونه نقطة في ذلك المحيط العظيم، شجرة في تلك الغابة العملاقة، أكثر من مجرد فرد وحيد وحسب، بل حوله جماعة تمده بكل ما يحتاجه من دعم وشعور بالانتماء والقيمة.
وذلك ما يتناقض مع توجه عصرنا الحالي نحو الاحتفاء بالفردانية والتغني بالوحدة وادعاء أنها المصدر الوحيد للشعور بقيمة الذات. وفرويد في نظريته يؤكد أن شعور الجماعة هو أعلى إحساس بالقيمة الذاتية يمكن أن يشعر به الفرد في حياته. أو كما يقول الشاعر المصري فؤاد حداد:
كلمة أنا ما تحلاش إلا بدفا الجماعة!
وذلك لأن الفرد يشعر في كثير من الأحيان أنه ليس كافياً لمواجهة الحياة، وبدون جماعة تحيطه وتضمه يصبح أكثر هشاشة وتعرضاً للإيذاء. لكن هل من الصحي أن يكون المصدر الذي يستمد منه الفرد قيمته الذاتية خارجياً فقط؟
قيمة الفرد في المجتمع الاشتراكي والرأسمالي
يقول الكثيرون إن الإنسان يستمد قيمته مما يفعل أو ينتج، وعلى عكس المتوقع، فمصدر تلك الأفكار لم يكن الرأسمالية الجشعة بقدر ما كان الشيوعية العتيقة.
أول من نادى بذلك الشعار كان كارل ماركس نفسه في كتابه «بيان الحزب الشيوعي 1968»، حيث اقتبس من أرسطو قوله إن الإنسان الجيد هو الذي يؤدي وظيفته بشكل جيد، مثل أن العين الجيدة هي العين التي ترى بشكل جيد. وأضاف ماركس أن الإنسان وظيفته هي أن يعمل ويُنتِج، والإنسان الجيد هو صاحب الإنتاج الجيد والمفيد للمجتمع، وأي فرد عكس ذلك يُعد خطراً على المجتمع وذا قيمة مهدرة.
وتطبيق ذلك الشعار رأيناه بشكل حرفي في الاتحاد السوفيتي، في عصر لينين تحديداً، الذي شهد عمليات الإعدام الواسعة التي تمت ضد العمال المتكاسلين، الذين لا يؤدون عملهم بإتقان، كل ذلك تحت شعار «جرائم ضد المجتمع الشيوعي».
ذلك وإن كان يدين النظرة الشيوعية، إلا أن البديل الرأسمالي لم يكن أكثر رحمة بالفرد، خصوصاً أنه حاول أن يجعل الإنسان يُقيِّم ذاته على أساس ما يملك وما يحقق؛ ما يملك من ممتلكات مادية يستهلكها لكي تدور عجلة الاقتصاد، وما يحقق من إنجازات بداخل السباق الوهمي التنافسي مع الآخرين لكي يزيد الإنتاج.
ومن هذا المنطلق يمكننا تلخيص قيمة الفرد في نوع سيارته وماركة بذلته ومُسماه الوظيفي، وتطبيق تلك النظرية نراه اليوم في مجتمعنا وتوابعه لا تختلف كثيراً عن توابع النظرة الاشتراكية، فقد استُبدل الإعدام المادي بالإعدام المعنوي، مضافاً إليه الشعور بالاغتراب والفشل وانعدام القيمة.
لا يبدو أن الاشتراكية والرأسمالية تمكنا من تقديم الجواب الأدق لتحديد قيمة الفرد، أليس كذلك؟
الأخلاق هي الحل
ربما لا تكمن المشكلة فيما يفعل المرء، بل في سياق ما يفعله. ربما يمكن للمرء استمداد قيمته مما يقدم للآخرين، من الخدمات التي يؤديها للمجتمع، ذلك في الأخير هو المثال الذي احتذى به الكثير من العظماء أمثال غاندي ونيلسون مانديلا والماما تريزا.
قد يوافق بعض الناس على هذا الرأي، لكن الأكيد أن الأديب الأمريكي «مارك توين» ليس من هؤلاء الناس. حيث يفسر توين وجهة نظره في كتابه «ما الإنسان؟» بينما يقص المشهد التالي:
بينما تسير عائداً للمنزل، اعترضت طريقك امرأة مسكينة تحمل رضيعاً بين يديها وتطلب منك أي شيء تُطعِم به صغيرها، ولأنك تملك قلباً كبيراً قمت بإعطائها بعض المال ثم أكملت السير في طريقك بينما ينتابك شعور بأنك شخص جيد ذو قيمة ومساهمة إيجابية في المجتمع.
وهنا يوقفك مارك توين ليسألك: هل فعلت ذلك لأنك تعاطفت مع المرأة المسكينة ووليدها أم فعلت ذلك لكي تجنب نفسك الشعور بالذنب حين تعود للمنزل؟ هل فعلت ذلك لأن قلبك رق للرضيع الجائع أم لأنك أردت أن تشعر أنك ذو فائدة؟ هل فعلت ذلك لأنك شخص جيد أم لأنك شخص أناني؟
وبعيداً عن تساؤلات توين لا أعتقد أن المواقف العابرة وشعورها المؤقت كافية ليستمد منها الإنسان قيمته الذاتية ونظرته لنفسه، بل على كل منا أن يتحلى بأرض ثابتة يقف عليها، وفلسفة قوية يتكئ عليها حين تراوده الشكوك حول نفسه وقيمتها الذاتية.
أنت أكثر من مجرد شخص
يُعد عالم النفس السويسري «كارل يونج» من أكثر علماء النفس المُثيرين للجدل، ليس فقط بسبب نظرياته المخيفة عن الجانب المظلم بالنفس البشرية، بل أيضاً لأنه كان من أوائل علماء النفس الذي تناولوا جزئية الإيمان بالإله بشكل علمي.
بالطبع كان هذا الأمر كافياً ليثير غضب معاصريه، لأننا لو عدنا بالزمن للخلف قليلاً، لوجدنا أن علم النفس كان من النتائج المتأخرة للثورة العلمية، والتي كانت في الأساس قائمة بشكل كبير ضد الدين وسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على أوروبا، بل كان من أسس الثورة سقوط مفهوم الإله أمام العلم.
لو كان الأمر كذلك، فكيف يملك يونج الجرأة ليجعل الإيمان بالإله جزءاً كبيراً من نظرياته بل يعتبر الإيمان به ضرورة سيكولوجية؟ أيضاً لم يكتفِ يونج بذلك، بل كان يستخدم فكرة الروح لتفسير حالات نفسية كثيرة. تتساءل كيف يمكنه فعل ذلك بشكل علمي بينما وجود الروح ليس له إثبات علمي من الأساس؟
هناك إثباتات فلسفية عديدة للروح، أبرزها إثبات أفلاطون للروح بمبدأ Inference To The Best Explanation والذي فيه يستدل على وجود شيء غير مادي بتفسير ظاهرة مادية ليس لها تفسير سوى افتراض وجود الشيء غير المادي.
حسناً، بغض النظر عن تلك التفاصيل الفلسفية، ما هي علاقة الروح بقيمة الإنسان الذاتية؟
في أولى صفحات كتابه Psychology And Alchemy يطرح كارل يونج تساؤلاً فريداً من نوعه، حيث يقول إن المؤمنين بالإله مؤمنون بأن صفات الإله تتمثل في كل شيء حولهم، وفي نفس الوقت يؤمنون بأن الروح هي كلمة الإله وسر منه بما يعني أنها أقرب مخلوقاته له. وبناءً على هذين الاعتقادين الرئيسين فإن أقرب مكان تتمثل فيه صفات الإله هي في روح مخلوقاته.
ومن هنا يستمد يونج نظرته للإنسان ككائن به شيء مقدس وإلهي، وذلك هو سبب النظرة المقيتة للقتل في كل الكتب السماوية، واعتبار أن من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، وتلك النظرة المقدسة للفرد كفيلة بأن تجمع كل طرق استمداد القيمة التي ناقشناها منذ قليل.
الروح الإلهية تمد الإنسان بالإحساس بالانتماء لكيان أكبر منه وأعظم منه، وفي نفس الوقت تدفعه أن يكون على قدر المسئولية التي خُلق لأجلها ليبدأ في تأدية وظيفته في الحياة، بالتبعية ينتج عن ذلك تحقيقه لإنجازات مادية على أرض الواقع، وبما أنه يؤمن بقدسية روح الفرد، فهو يؤمن بقيمة جميع الأفراد مما يدفعه لتأدية خدمات طيبة تجاههم والإسهام في تنمية المجتمع.
لهذا تتفوق نظرية يونج
الفرق بين نظرية يونج وما سواه هو أن الإنسان لن يعرِّف نفسه بوظيفته ولا بإنجازاته ولا بما يملك وما يقدم، بل إنه لن يشعر بالحاجة لتعريف نفسه من الأساس، فهو يستمد قيمته من مصدر أكبر من ذلك بكثير، وشعوره بأنه قيم وله أهمية وقادر على إحداث الفارق لن يكون ناتجاً عن شيء مادي، خصوصاً أن الأشياء المادية يسهل عليها أن تخذلنا: فالوظيفة يمكن أن تُفقد، والأموال يمكن أن تضيع، والإنجازات يمكن أن تُبخس قيمتها، وكل ما هو متغير زائل.
أما إيمان الفرد بقيمته وقيمة مصدر روحه فهو الدافع الوحيد الذي لا يمكنه أن يتبدل أو يتغير، الدافع الذي سيحث المرء على تأدية وظيفته وتحقيق الإنجازات وإفادة المجتمع، ويقينه بمسألة من أين جاء وإلى أين سيذهب، سوف يمده بالقوة والجلد تجاه متغيرات الحياة ومعارك الزمن.